سورة الحديد - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


ولما كان من جملة صفات المختال المكاثر بالمال البخل، وكان قد تقدم الحث على الإنفاق، وكان ما يوجبه لذة الفخار والاختيال التي أوصل إليها المال حاملة على البخل خوفاً من الإقتار الموجب عند أهل الدنيا للصغار، قال تعالى واصفاً للمختال أو {لكل}: {الذين يبخلون} أي يوجدون هذه الحقيقة مع الاستمرار {ويأمرون الناس} أي كل من يعرفونه {بالبخل} إرادة أن يكون لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة فيحامون عنهم أو أنهم يوجبون بأعمالهم من التكبر والبطر في الأموال التي حصلها لهم البخل استدراجاً من الله لهم بخل غيرهم لأنه إذا رآهم عظموا بالمال بخل ليكثر ماله ويعظم، وذلك كله نتيجة فرحهم بالموجود وبطرهم عند إصابته، فكانوا آمرين بالبخل لكونهم أسباباً له والسبب كالآمر في إيجاد شيء.
ولما كان التقدير: فمن أقبل على ما ندب إليه من الإقراض الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله شكور حليم، عطف عليه قوله ذاماً للبخل محذراً منه: {ومن يتول} أي يكلف نفسه من الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله {فإن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {هو} أي وحده {الغني} أي عن ماله وإنفاقه وكل شيء إلى الله مفتقر {الحميد} أي المستحق للحمد وسواء حمده الحامدون أم لا، وقراءة نافع وابن عامر بإسقاط هو مفيدة لحصر المبتدأ في الخبر للتعريف وإن كانت قراءة الجماعة آكد.
ولما ظهرت الأدلة حتى لم يبق لأحد علة، وانتشر نورها حتى ملأ الأكوان، وعلا علواً تضاءل دون عليائه كيوان، وكان فيما تقدم شرح مآل الدنيا وبيان حقيقتها، وأن الأدمي إذا خلي ونفسه ارتكب ما لا يليق من التفاخر وما شاكله وترك ما يراد به مما دعي إليه من الخير جهلاً منه وانقياداً مع طبعه، وكان ختم الآية السابقة ربما أوهم المشاركة، قال تعالى نافياً ذلك في جواب من توقع الإخبار عن سائر الأنبياء: هو أوتوا من البيان ما أزال اللبس، مؤكداً لإزالة العذر بإقامة الحجج بإرسال الرسل بالمعجزات الحاضرة والكتب الباقية، معلماً أن من أعرض كلف الإقبال بالسيف، فإن الحكيم العظيم تأبى عظمته وحكمته أن يخلي المعرض عن بينة ترده عما هو فيه، وقسر يكفيه عما يطغيه: {لقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {رسلنا} أي الذين لهم نهاية الإجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام، ومن الأنبياء إلى الأمم {بالبينات} أي الموجبة للإقبال في الحال لكونها لا لبس فيها أصلاً، ودل على عظمة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بأنهم لعلو مقاماتهم بالإرسال كأنهم أتوا إلى العباد من موضع عال جداً فقال: {وأنزلنا} بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها {معهم الكتاب} أي الحافظ في زمن الاستقبال في الأحكام والشرائع.
ولما كان فهم الكتاب ربما أشكل فإنه يحتاج إلى ذهن صقيل وفكر طويل، وصبر كبير وعلم كثير- قال الرازي: وبهذا قيل: لولا الكتاب لأصبح العقل حائراً ولولا العقل لم ينتفع بالكتاب، عقبه بما يشترك في معرفته الكبير والصغير، والجاهل والنحرير، وهو أقرب الأشياء إلى الكتاب في العلم بمطابقة الواقع لما يراد فقال: {والميزان} أي العدل والحكمة، ولعله كل ما يقع به التقدير حساً أو معنى، وتعقيبه به إشارة إلى أن عدم زيغه لعدم حظ ونحوه، فمن حكم الكتاب خالياً عن حظ نفس وصل إلى المقصود {ليقوم الناس} أي الذين فيهم قابلية التحرك إلى المعالي كلهم {بالقسط} أي العدل الذي لا مزيد عليه لانتظام جميع أحوالهم، هذا لمن أذعن للبينات لذات من أقامها أو للرغبة فيها عنده.
ولما كان الإعراض بعد الإبلاغ في الإيضاح موجباً للرد عن الفساد بأنواع الجهاد، قال مهدداً وممتناً ترغيباً وترهيباً معبراً عن الخلق بالإنزال تشريفاً وتعظيماً: {وأنزلنا} أي خلقنا خلقاً عظيماً بما لنا من القدرة {الحديد} أي المعروف على وجه من القوة والصلابة واللين والحدة لقبول التأثير يعد به كالبائن لما في الأرض، فلذلك سمي إيجاده إنزالاً، ولأن الأوامر بالإيجاد والإعدام تنزل من السماء على أيدي الملائكة لأن السماء محل الحوادث الكبار، والبدائع والأسرار، لأن الماء الذي هو أصله وأصل كل نام ينزل من السماء وتكون الأرض له بمنزلة الرحمن للنطفة.
ولما وقع التشوف إلى سبب إنزاله، قال: {فيه بأس} أي قوة وشدة وعذاب {شديد} لما فيه من الصلابة الملائمة للمضاء والحدة {ومنافع للناس} بما يعمل منه من مرافقهم ومعاونهم لتقوم أحوالهم بذلك، قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها. ولما كان التقدير: ليعلم الله من يعصيه ويخذل أولياءه، بوضع بأسه في غير ما أمر به نصرة لشيطانه وهواه وافتنانه، عطف عليه قوله: {وليعلم الله} أي الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، وأوقع ضمير الدين عليه سبحانه تعظيماً له لأنه شارعه فقال: {من ينصره} أي يقبل مجداً على الاستمرار على نصر دينه {ورسله} بالذب عنهم والدعاء إليهم، كاثناً ذلك النصر {بالغيب} من الوعد والوعيد، أي بسبب تصديق الناصر لما غاب عنه من ذلك، أو غائباً عن كل ما أوجب له النصرة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ينصرونه ولا يبصرونه- انتهى. فلم يدع سبحانه في هذه الآية لأحد عذراً بالرسل الذين هم الجنس مع تأييدهم بما ينفي عنهم اللبس، والكتاب العالي عن كلام الخلق، والعقل الذي عرف العدل، والسلاح الذي يرد أولي الجهل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف» فبيان الشرائع بالكتاب، وتقويم أبواب العدل بالميزان، وتنفيذ هذه المعاني بالسيف، فإن مصالح الدين من غير هيبة السلطان لا يمكن رعايتها، فالملك والدين توأمان، فالدين بلا ملك ضائع، والملك من غير دين باطل، والسلطان ظل الله في الأرض، فظواهر الكتاب للعوام، ووزن معارفه لأهل الحقائق بالميزان، ومن خرج عن الطائفتين فله الحديد وهو السيف، لأن تشويش الدين منه- نبه عليه الرازي.
ولما كان طالب النصرة مظنة لتوهم الضعف، قال نافياً لذلك مؤكداً قطعاً لتعنت المتعنتين مظهراً للاسم الأعظم إشارة إلى أن من له جميع صفات الكمال لا يمكن أن تطرقه حاجة: {إن الله} أي الذي له العظمة كلها. ولما لم يكن هنا داع إلى أكثر من هذا التأكيد: بخلاف ما أشير إليه من الإخراج من الديار المذكورة في الحج ونحوه، قال معلماً بأنه غني عن كل شيء معرياً الخبر من اللام: {قوي} أي فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أولياءه {عزيز} فهو غير مفتقر إلى نصر أحد، وإنما دعا عباده إلى نصر دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور، ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي، ببنائه هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب.


ولما عم الرسل جامعاً لهم في البينات، فكان السامع جديراً بأن يتوقع التعيين، وخص من بينهم من أولي العزم أبوين جامعين في الذرية والرسالة، لأن ذلك أنسب لمقصود السورة لتبيين فضل محمد صلى الله عليه وسلم الذي عم برسالته عموماً لم يكن لأحد غيره، فنوح عليه السلام أرسل لأهل الأرض لكونهم كانوا على لسان واحد، وعموم إبراهيم عليه السلام بأولاده عليهم السلام ونص بعدهما على عيسى عليه السلام بما له من عموم الرسالة إلى بني إسرائيل بالنسخ والتشريع، ثم من نزوله في هذه الأمة بالتقرير والتجديد فقالك {ولقد أرسلنا} أي بما لنا من صفات الكمال والجمال والجلال {نوحاً} الأب الثاني، وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال {وإبراهيم} أبا العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله، وجعلنا الأغلب على رسالته مجلى الإكرام {وجعلنا} بما لنا من العظمة {في ذريتهما النبوة} المقتضية للوصلة بالملك الأعظم لتنفيذ الأوامر {والكتاب} الجامع للأحكام الضابط للشرائع بأن استنبأنا بعض ذريتهما وأنزلنا إليهم الكتب فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدلٍ إليهما بأمتن الأسباب وأعظم الأنساب.
ولما كان مظهر العظمة مقتضياً لإشقاء من أريد إشقاؤه مع عدم المبالاة به، كائناً من كان، سواء اتصل بالأولياء أو الأعداء لئلا يأمن أحد فيقع في الخسران أو ييأس أحد فيلزم الهوان قال: {فمنهم} أي ذرية هذين الصنفين {مهتد} هو بعين الرضا منا- وهو من لزم طريق الأصفياء واستمسك بعهدهم ولم يزغ أصلاً وإن كان من أولاد الأعداء.
ولما كان من زاغ بعد تذكيره بالكتب والرسل، كان مستحقاً للمبالغة في الذم ولو أنه واحد فكيف إذا كان كثيراً، نبه بتغيير السياق على ذلك وعلى أن الأغلب الضلال فقال: {وكثير منهم} أي الذرية الموصوفين {فاسقون} هم بعين السخط وإن كانوا أولاد الأصفياء وهم من خالف الأولياء بمنابذة أو ابتداع أو زيغ عن سبيلهم بما لم ينهجوه من تفريظ وإفراط.
ولما كان من مقاصد هذه السورة العظمى الإعلام بنسخ الشرائع كلها بشريعة هذا النبي الفاتح العام الرسالة لجميع الخلائق صلى الله عليه وسلم، قال مشيراً إلى عظمة الإرسال والرسل بأداة التراخي: {ثم قفينا} أي بما لنا من العظمة تقفية لها من العظمة ما يجل وصفه {على آثارهم} أي الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل، ولا يعود الضمير على {الذرية} لأنها باقية مع الرسل وبعدهم {برسلنا} أي فأرسلناهم واحداً في أثر واحد بين ما لا يحصى من الخلق من الكفرة محروسين منهم في الأغلب بما تقتضيه العظمة، لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه، فكل رسول بين يدي الذي بعده، والذين بعده في قفاه- فهو مقف له لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له، فنبينا صلى الله عليه وسلم أعرق الناس في هذا الوصف لأنه لا نبي بعده، ولهذا كان الوصف أحد أسمائه.
ولما كان عيسى عليه السلام أعظم من جاء بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فهو الناسخ لشريعته والمؤيد به هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في تجديد دينه وتقرير شريعته، وكان الزهد والرأفة والرحمة في تابعيه في غاية الظهور مع أن ذلك لم يمنعهم من القسوة المنبهة سابقاً على أن الموجب لها طول الأمد الناشئ عنها الإعراض عن الآيات الحاضرة معه والكتاب الباقي بعده، خصه بالذكر وأعاد العامل فقال: {وقفينا} أي أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تدرس {بعيسى ابن مريم} وهو آخر من قبل النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام، فأمته أول الأمم بالأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم {وآتيناه} بما لنا من العظمة {الإنجيل} كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبيناً للقيامة مبشراً بالنبي العربي موضحاً لأمره مكثراً من ذكره {وجعلنا} لعزتنا {في قلوب الذين اتبعوه} أي بغاية جهدهم، فكانوا على مناهجه {رأفة} أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم {ورحمة} أي رقة وعطفاً من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين، وترتيب الوصفين هكذا أدل دليل على أنهما لم يقصد بهما مراعاة الفواصل في {رؤف رحيم} كما قاله بعض المفسرين وتقدم في آخر براءة أن ذلك قول لا يحل التصويب إليه ولا التعويل عليه وإن قاله من قال {ورهبانية} أي أموراً حاملة على الرهبية والتزيي بزيها والعمل على حسبها مبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس.
ولم قدم المعمول لفعل غير مذكور ليدل عليه بما يفسره ليكون مذكوراً مرتين تأكيداً له إفهاماً لذم نفس الابتداع، أتبعه المفسر لعامله فقال: {ابتدعوها} أي حملوا أنفسهم على عملها والتطويق بها من غير أن يكون لهم فيها سلف يعلمونه أو يكون بما صرح به كتابه وإن كانت مقاصده لا تأباها فاعتزلوا لأجلها الناس، وانقطعوا في الجبال على الاستئناس، وكانت لهم بذلك أخبار شائعة في النواحي والأمصار، وفي التقديم على العامل سر آخر وهو الصلاحية للعطف على ما قبلها لئلا يتوهم في لفظ الابتداع أن لا صنع لله فيها {ما كتبناها} أي فرضناها بعظمتنا {عليهم} في كتابهم ولا على لسان رسولهم {إلا} أي لكن ابتدعوها {ابتغاء} أي لأجل تكليفهم أنفسهم الوقوع بغاية الاجتهاد في تصفية القلوب وتهذيب النفوس وتزكية الأعمال على {رضوان الله} أي الرضا العظيم من الملك الأعظم، وساق المنقطع مساق المتصل إشارة إلى أنه مما يرضي الله، وأنه ما ترك فرضها عليهم إلا رحمة لهم لأجل صعوبتها، وأنه صيرها بعد إلزامهم بها كالمكتوبة، فيكون التقدير حينئذ: إلا لأجل أن يبتغوا رضوانه على وجه الثبات والدوام، قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري في كتابه فتوح مصر والمغرب: فلما أن أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده كما حدثنا هانئ بن المتوكل عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن تبيع قال: استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة لموسى عليه السلام في الرجوع إلى أهله وماله بمصر فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا مع رؤوس الجبال، فكانوا أول من ترهب، وكان يقال لهم الشيعة، وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله عز وجل، ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السلام.
ولما تسبب عن صعوبتها أنهم أضاعوها بالتقصير عن شؤونها والسفول عن عليائها قال: {فما رعوها} أي حفظوها كلهم بحفظ من هو مرتاع من خوف ضياعها {حق رعايتها} بصون العناية في رعاية الأعمال والأحوال والأقوال، فصون الأعمال توفيرها لتحقيرها من غير التفات إليها، ورعاية الأحوال عند الاجتهاد من أتاه والحال دعوى، ورعاية الوقت الوقوف مع حضور على بساط شهود الجلال- ذكره الرازي. بل غلبت عليهم صفات البشر فقصر بعضهم عن عالي مداها، وانحطوا عن شامخ ذراها، هذا تنفير عظيم عن البدع، وحث شديد على لزوم ما سنه الله وشرع، وتحذير من التشديد، فإنه لن يشادّ الدين أحد إلا غلبه وهو الترحال إلى البدعة ولهذا أكثر في أهل الرهبانية المروق من الدين بالاتحاد والحلول وغير ذلك من البلايا ولو كان يظهر أن التشديد والتعمق خير لأن الشارع الذي أحاط علماً بما لم يحط به نهى عنه، وقد أفادت التجربة أنه قد يغر لأن هؤلاء ابتدعوا ما أرادوا الخير، فكان داعياً لكثير منهم إلى دار البوار، وفيه أيضاً حث عظيم على المداومة على ما اعتيد من الأعمال الصالحة خصوصاً، ما عمل النبي صلى الله عليه وسلم عملاً إلا دوام عليه، وكان ينهى عن التعمق في الدين، ويأمر بالرفق والقصد.
ولما كانت متابعة النفس في التقصير بالإفراط قد توصل إلى المروق من الدين فيوجب الكفر فيحط على الهلاك كله، أشار إلى ذلك بقوله: {فآتينا} أي بما لنا من صفات الكمال {الذين آمنوا} أي استمروا على الإيمان الكامل، ولعل في التعبير بالماضي بعد إرادة التعميم للأدنى والأعلى إشارة إلى إن المتعمق بين إيمان وكفر لا تجرد معصيته كما أشار إليه ختم الآية فهو في غاية الذم للتعمق والمدح للاقتصاد {منهم} أي من هؤلاء المبتدعين لأنهم رعوها حق رعايتها ووصلوا إيمانهم بعيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسلام بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إليه الخروج عن النفس الذي هو روح الرهبانية بموافقتهم لما في كتابهم من البشائر به {أجرهم} أي اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف.
ولما كانت متابعة الأهواء تكسب صفات ذميمة تصير ملكات راسخة للأنفس، أشار إلى ذلك بالعدول عن النهج الأول فقال: {وكثير منهم} أي هؤلاء الذين ابتدعوا فضيعوا {فاسقون} أي عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدها الله تعالى، روى البغوي من طريق الثعلبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آمن بي فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون» انتهى. ومثل هذه الرهبانية في أنها لا تأباها قواعد الدين ما يفهمه بعض العلماء من الكتاب والسنة فيتذكره، فيكون أخذنا له من الأصول التي نبه عليها لا منه، كما أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يفعلون أشياء فإن قررهم النبي صلى الله عليه وسلم كانت شرعاً لنا وكنا آخذين لها من تفسيره صلى الله عليه وسلم لا منهم، فإن من ملكه الله رتبة الاجتهاد في شيء وأمكنه فيه من القواعد فأداه اجتهاده إلى أن هذا مندوب إليه مرغوب فيه مثلاً، كان ذلك بما يشهد له من قواعد الدين بمنزلة ما قاله الصحابة رضي الله عنهم فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين أن يقرره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بقواعد شريعته، ومهما كان مقرراً بقواعد شرعه كان عليه أمره، ومهما لم يكن مقرراً بها كان مما ليس عليه أمره فهو رد على قائله، فهذا فرق بين البدع الحسنة والبدع القبيحة- والله الموفق، وذكر ابن برجان تنزيل هذا الحديث الذي فيه «لتتبعن سنن من كان قبلكم» فذكر أن أصحاب عيسى عليه السلام عملوا بعده بالإنجيل حتى قام فيهم ملك بدل كتابهم، وشايعه على ذلك روم ويونان، فضعف أهل الإيمان، فاستذلوهم حتى هربوا إلى البراري، وعملوا الصوامع وابتدعوا الرهبانية، وكذلك كان في هذه لتصديق الحديث الشريف فإنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه خلفاؤه بإحسان، فلما مضت الخلافة الراشدة تراكمت الفتن كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد البلاء على المتمسكين بصريح الإيمان، ورجم البيت العتيق بحجارة المنجنيق وهدم، وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما واستبيحت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وقتل خيار من فيها فرأى المسلمون العزلة واجبة، فلزموا الزوايا والمساجد وابتنوا الروابط على سواحل البحر وأخذوا في الجهاد للعدو والنفوس، وعالجوا تصفية أخلاقهم ولزموا الفقر أخذاً من أحوال أهل الصفة، وتسموا بالصوفية وتكلموا على الورع والصدق والمنازل والأحوال والمقامات فهؤلاء وزان أولئك- والله الموفق.
ذكر ما في الإنجيل ما من الحكم التي توجب الزهد في الدنيا والإقبال على الله التي يصح تمسك أهل هذه الرهبانية بها: قال متى وغيره وأغلب السياق لمتى: إن أخطأ عليك أخوك فاذهب أعتبه وحدكما، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك فخذ معك واحداً أو اثنين، لأن من فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة، وإن لم يسمع منهم فقل للبيعة، فإن لم يسمع من البيعة فيكون عندك كالوثني والعشار، الحق أقول لكم، وقال لوقا: انظروا الآن إن أخطأ إليك أخوك فانهه، فإن تاب فاغفر له، فإن أخطأ إليك سبع دفعات في اليوم ورجع إليك سبع دفعات يقول لك: أنا تائب، فاغفر له، وقال متى: حينئذ جاء إليه بطرس وقال له: إذا أخطأ إليّ أخي لم أغفر له سبع مرات، قال: ليس أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة، ولهذا يشبه ملكوت السماوات ملكاً أراد أن يحاسب عبيده، فلما بدأ بمحاسبتهم قدم إليه عبد مديون عليه جملة وزنات، ولم يكن معه ما يوفي، فأمر سيده أن تباع امرأته وبنوه وكل ما له حتى يوفي، فخر ذلك العبد له ساجداً قائلاً: يا رب، ترأف عليّ تأن، أوفك كل مالك، فتحنن عليه سيده وترك له كل ما عليه، فخرج ذلك العبد فوجد عبداً من أصدقائه عليه مائة دينار فأمسكه وخنقه وقال: أعطني ما عليك، فخر ذلك العبد على رجليه وطلب إليه قائلاً: ترأف عليّ فأنا أعطيك مالك، فأبى ومضى ورتكه في السجن حتى يوفي الدين، فرأى العبد أصحابه فحزنوا عليه جداً وأعلموا سيده بكل ما كان منه، حينئذ دعاه سيده وقال له: أيها العبد الشرير! كل ما كان عليك تركت بذلك لأنك سألتني، ما كان ينبغي لك أن ترحكم ذلك العبد صاحبك كرحمتي إياك، وغضب سيده ودفعه إلى المعذبين حتى يوفي جميع ما عليه، هكذا أبي السماوي يصنع بكم إن لم تغفروا لإخوانكم سيئاتهم من كل قلوبكم، فلما أكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم يهود عبر الأردن فتبعه جمع كثير فأبرأهم هناك، قال لوقا: فلما أكمل أيام صعوده أقبل بوجهه إلى يروشليم، وأرسل مخبرين قدام وجهه فمضوا ودخلوا قرية السامرة، لكيما يعدوا له فلم يقبلوه فقال تلميذاه يعقوب ويوحنا: يا رب تريد أن نقول فتنزل عليهم نار من السماء فتهلكهم كما فعل إليا، فالتفت فنهرهما قائلاً: لستما تعرفان أي روح أنتما، إن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس بل يحيي، ومضى إلى قرية أخرى، وقال متى: حينئذ قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم ويباركهم فنهرهم التلاميذ فقال لهم يسوع: جعوا الصبيان ولا تمنعوهم أن يأتوا إليّ لأن ملكوت السماوات لمثل هؤلاء، ووضع يده عليهم وبارك لهم، وقال مرقس: الحق أقول لكم، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها، واحتضنهم ووضع يده عليهم وباركهم، وقال متى: ومضى من هناك وجاء إليه واحد وقال: يا معلم صالح- وقال مرقس: أيها الملعم الصالح- ما أعمل من الصلاح لأرث الحياة الدائمة، قال له: لماذا تقول: صالح، ولا صالح إلا الله الواحد، إن كنت تريد أن تدخل الحياة احفظ الوصايا، قال له: وما هي؟ قال يسوع: لا تقتل ولا تسرق ولا تزن ولا تشهد الزور، وقال مرقس: لا تجر، أكرم أباك وأمك- حب قريبك مثلك، قال له الشاب: كل هذا قد حفظته من صغري، قال له يسوع: إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب، وقال مرقس: فنظر إليه يسوع وأحبه، وقال: تريد أن تكون كاملاً، واحدة بقيت عليك: امض وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني، فلما سمع الشاب الكلام مضى حزيناً لأنه كان له مال كثير، فقال يسوع لتلامذته: الحق أقول لكم! إنه يعسر على الغني الدخول إلى ملكوت السماء، وأيضاً أقول لكم: إنه أسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من غني يدخل ملكوت السماوات، فلما سمع التلاميذ بهتوا جداً وقالوا: من يقدر أن يخلص، فنظر يسوع وقال لهم: أما عند الناس فلا يستطاع هذا، وأما عند الله فكل يستطاع، حينئذ أجاب بطرس وقال له: هو ذا نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا عسى أن يكون لنا، قال لهم يسوع: الحق والحق أقول لكم! أنتم الذين اتبعتموني في الجبل الآتي إذا جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم على اثني عشر كرسياً، تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، كل ما ترك بنين أو أخاً أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو بيتاً أو حقلاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث حياة الأبد، وقال لوقا: ما من أحد ترك منزلاً أو والدين أو إخوة أو امرأة أو مالاً من أجل ملكوت الله إلا وينال العوض أضعافاً كثيرة في هذا الزمان وفي الدهر الآتي حياة الأبد، وقال متى وغيره: كثيراً أولون يصيرون آخرين: وأخرون يصيرون أولين، يشبه ملكوت السماوات إنساناً رب بيت خرج الغداة ليستأجر فعله لكرمه، فشارك الأكرة على دينار واحد في اليوم- إلى آخر ما مضى في الأعراف من البشارة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم في مثل الفعلة في الكرم الذي فضل آخرهم وهو العامل قليلاً على من عمل أكثر النهار وقد ساقه ابن برجان في آخر تفسير سورة الحديد عن الإنجيل بعبارة أخرى تفسيراً كثيراً من عبارة النسخة التي نقلت ذاك منها، فأحببت أن أذكر عبارة ابن برجان هنا تكميلاً للفائدة، قال: وفي الكتاب الذي يذكر أنه الإنجيل: وكثيراً يتقدم الآخرون الأولون ويكون الأولون ساقة الآخرين: ولذلك يشبه ملكوت السماوات برجل ملي خرج في استئجار الأعوان لحفر كرم في أول النهار، وعامل كل واحد في نهاره على درهم ثم أدخلهم كرمه، فلما كان في الساعة الثالثة بصر لغيرهم في الرحاب لا شغل لهم فقال: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم وسآمر لكم بحقوقكم، ففعلوا، ثم فعل مثل ذلك في الساعة السادسة والتاسعة، فلما كان في الساعة الإحدى عشرة وجد غيرهم وقوفاً فقال لهم: لم وقفتم هنا طول نهاركم دون عمل؟ فقالوا له: إنا لم يستأجرنا أحد، فقال لهم: اذهبوا أنتم سآمر لكم بحقوقكم، فلما انقضى النهار قال لوكيله: ادع الأعوان وأعطهم أجرتهم وابدأ بالآخرين حتى تنتهي إلى الأولين، فبدأ بالذين دخلوا في الساعة الإحدى عشرة وأعطى كل واحد منهم درهماً، قأقبل الأولون وهم الذين يرجون الزيادة، فأعطى كل واحدٍ منهم درهماً، فاستذكروا ذلك على صاحب الكرم وقالوا: سويتنا بالذين لم يعملوا إلا ساعة من النهار في شخوصنا طول نهارنا وعذابنا بحرارته، فأجاب أحدهم وقال: لست أظلمك يا صديق، أما عاملتني على درهم فخذ حقك وانطلق فإنه يوافقني أن أعطي الآخر كما أعطيتك، أفلا يحل لي ذلك؟ وإن كنت حسوداً فإني أنا رحيم، ومن أجل ذلك يتقدم الآخرون الأولين، ويكون الأولون ساقة الآخرين فالمدعوون كثير، والخيرون قليل، وذكر ابن برجان أن الساعة السادسة لعيسى عليه السلام وأصحابه في أول الأمر والتاسعة لمحمد صلى الله عليه وسلم والحادية عشرة لآخر الزمان- كأنه يعني ما بعد الدجال من أيام محمد صلى الله عليه وسلم التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجدداً، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجدداً، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيح شيئاً واحداً من العصر إلى غروب الشمس، ثم قال متى في بقية ما مضى من الإنجيل في النسخة التي نقلت منها عقب ما تقدم أنه في الأعراف: فصعد يسوع إلى يروشليم وأخذ الاثني عشر، حينئذ جاءت إليه أم ابني زبدي- هما يعقوب ويوحنا- مع ابنيها وسجدت له، فقال لها: ماذا تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك، أجاب يسوع: أما جلوسهما عن يميني ويساري فليس لي بل للذي أعده لهم ربي، فلما سمع العشرة تقمقموا على الآخرين- وقال مرقس: على يعقوب ويوحنا- فدعاهم يسوع وقال لهم: أما علمتم أن رؤساء الأمم يسودونهم وعظماءهم مسلطون عليهم، ليس هكذا يكون فيكم، لكن من أراد أن يكون فيكم كبيراً فيكون لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فيكون لكم عبداً، وقال مرقس: فيكون آخر للكل وخادماً للجميع، كذلك ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم، ويبذل نفسه فداء عن كثير، فلما خرج من أريحا تبعه جمع كثير وإذا أعميان جالسان على الطريق فسمعا أن يسوع مجتاز فصرخا قائلين: ارحمنا يا رب يا ابن داود، فوقف يسوع ودعاهما وقال لهما: ما تريدان أن أفعل لكما، قالا له: يا رب، أن تفتح أعيننا، فتحنن يسوع ولمس أعينهما وللوقت أبصرت أعينهما وتبعاه، وعبارة مرقس عن ذلك: وجاء إلى أريحا وخرج من هناك وتبعه تلاميذه وجمع كثير وإذا طيماس بن طماس الأعمى جالس يسأل عن الطريق- وقال لوقا: يتوسل- فسمع الجمع المجتاز فسأل: ما هذا، فأخبروه أن يسوع الناصري جاء، وقال مرقس: فلما سمع بأن يسوع مقبل بدأ يصيح ويقول: يا يسوع الناصري ابن داود ارحمني، فانتهروه ليسكت، فازداد صياحاً قائلاً: يا رب يا ابن داود، ارحمني، فوقف يسوع وقال: ادعوه، فدعي الأعمى وقالوا له: ثق وقم فإنه يدعوك، وطرح ثوبه ونهض وجاء إلى يسوع فأجابه يسوع وقال له: ما تريد أن أصنع بك؟ فقال له الأعمى: يا معلم، وقال لوقا: يا رب- أن أبصر، فقال له يسوع: اذهب إيمان خلصك، وللوقت أبصر، وتبعه في الطريق- قال لوقا: يمجد الله- وكان جميع الشعب الذين رأوه يسبحون الله.
وقال أيضاً: وكان بينما هو منطلق إلى يروشليم اجتاز بين السامرة والجليل، وفيما هو داخل إلى إحدى القرى استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد ورفعوا أصواتهم قائلين: يا يسوع الملعم ارحمنا! فنظر إليهم وقال لهم: اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة، وفيما هم منطلقون طهروا، فلما رأى أحدهم أنه قد طهر رجع بصوت عظيم بمجد الله وخر على وجهه عند رجليه شاكراً له، وكان سامرياً، أجاب يسوع وقال: أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة، ألم يجدوا ليرجعوا ويمجدوا الله ما خلا هذا الغريب، ثم قال له: قم فامض، إيمانكم خلصك.
قال متى: ولما قربوا من يروشليم وجاؤوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون- وقال مرقس: عند باب فاجي وبيت عنيا جانب طور الزيتون- قال متى: حينئذ أرسل يسوع اثنين من تلاميذه: وقال لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما فتجدان أتانه مربوطة وجحشاً معهما فحلاهما وائتياني بهما! فإن قال لكما أحد شيئاً فقولا له: إن الرب محتاج إليهما! فهو يرسلهما للقوت، كان هذا ليتم ما قيل في النبي القائل قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك متواضعاً راكباً على أتانه وجحش ابن أتانة، فذهب التلميذان وصنعا كما أمرهما يسوع، فأتيا بالأتانة والجحش وتركوا ثيابهم عليهما، وجلس معهما، وجمع كثير فرشوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الشجر وفرشوها في الطريق، وعبارة مرقس عن ذلك: تجد أن جحشاً مربوطاً لم يركبه أحد من الناس قط، فحلاه وائتيا به، فإن قال لكما أحد: ما تفعلان بهذا؟ فقولا: إن الرب محتاج إليه من ساعة يرسله، فذهبا ووجدا الجحش مربوطاً عند الباب خارجاً عن الطريق فحلاه فقال لهما قوم من القيام هناك: ما تصنعان؟ فقالا لهم كما قال يسوع فتركوهما، وجاءا بالجحش إلى يسوع فألقوا عليهم ثيابهم وجلس عليهم وكثير بسطوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الحقل وفرشوها في الطريق.
قال متى: والجمع الذي تقدمه والذي تبعوا صرخوا قائلين: أوصنا يا ابن داود مبارك الآتي باسم الرب، قال مرقس: ومباركة المملكة الآتية باسم الرب لأبينا داود أوصنا في العلاء، وقال لوقا: وكان لما قرب من منحدر جبل الزيتون بدأ جمع الملأ والتلاميذ يفرحون ويسبحون الله ويمجدونه بجميع الأصوات من أجل القوات التي نظروا قائلين: تبارك الملك الآتي باسم الرب والسلامة في السماء والمجد في العلا، وقوم من الفريسيين من بين الجمع قالوا له: ما معلم انتهر تلاميذك، فقال لهم: إن سكت التلاميذ نطقت الحجارة، فلما قرب نظر المدينة وبكى عليها وقال: لو علمت في هذا اليوم ما لك فيه من السلامة، فأما الآن فإنه قد خفي عن عينيك، وسوف تأتي أيام تلقى أعداؤك معلمك ويحيطون بك ويضيقون عليك من كل موضع ويقتلونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً، وقال متى: فلما دخل إلى يروشليم ارتجت المدينة كلها قائلين: من هذا؟ فقال الجمع: هذا يسوع النبي الذي هو من ناصرة الجليل، فدخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص. وقال يوحنا: فصعد يسوع إلي يروشليم فوجد في الهيكل باعة البقرة والكباش والحمام وصيارف جلوساً، فصنع محضرة من حبل وأخرج جميعهم من الهيكل فطرد البقر والخراف وبدد دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال متى: وقدم إليه عميان وعرج في الهيكل فشفاهم، فرأى رؤساء الكهنة العجائب التي صنع والصبيان يصيحون في الهيكل ويقولون: أوصنا يا ابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، فتقمقموا وقالوا: ما تسمع ما يقول هؤلاء، فقال لهم يسوع: نعم، أما قرأتم قط أن من فم الأطفال والمرضعين أعددت سبحاً، وتركهم وخرج خارج المدينة وبات هناك في بيت هنيا وفي غد عبر إلى المدينة فجاع ونظر إلى شجرة تين على الطريق فجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا الورق، فقال لها: لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست تلك الشجرة للوقت، فنظر التلاميذ وتعجبوا وقالوا: كيف يبست التينة للوقت، أجاب يسوع وقال لهم: الحق أقول لكم! إن كان لكم إيمان ولا تشكون ليس مثل هذه الشجرة التين فقط تصنعون ولكن تقولون لهذا الجبل: تعال واسقط في البحر، فيكون، وقال مرقس: إن كان لكم إيمان بالله، لحق أقول لكم: إن من قال لهذا الجبل: انتقل واسقط في هذا البحر، ولا يشك في قلبه بل يصدق فيكون له الذي قال، من أجل هذا أقول لكم: إن كل ما تسألونه في الصلاة بإيمان أنكم تنالونه فيكون لكم، وقال متى: وكل ما تسألونه في الصلاة بإيمان تنالونه، وقال مرقس: فقال له يوحنا، يا معلم! رأينا واحداً يخرج الشياطين باسمك فمعناه لأنه لم يتبعنا، قال لهم يسوع: لا تمنعوه ليس يصنع أحد قوة باسمي، ويقدر سريعاً أن يقول على الشر، كل من ليس هو عليكم فهو معكم ومن سقاكم كأس ماء باسم أبيكم المسيح الحق أقول لكم: إن أجره لا يضيع.
وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا إطلاق الأب على الله وإطلاق الرب على غيره بلا قيد، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك غير مرة- والله الهادي للصواب.


ولما قرر سبحانه أن الرسل دعاة للحق إلى سيدهم طوعاً أو كرهاً بالكتاب والحديد، وقرر أن السعادة كلها في اتباعهم، وأن البدع لا تأتي بخير وإن زين الشيطان أمرها وخيل أنه خير، وأن أصحاب الذي كان نسخ شريعة من قبله ابتدعوا بدعة حسنة فوكلوا إليها ففسق أكثرهم، فاقتضى ذلك إرسال من ينسخ كل شريعة تقدمته نسخاً لا زوال له لأنه لا نبي بعده ونهى عن البدع نهياً لم يتقدمه أحد إلى مثله، أنتج ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بذلك إقراراً صحيحاً بنبي مما تقدم أو بالنبي صلى الله عليه وسلم {اتقوا الله} أي خافوا عقابه فاجعلوا بينكم وبين سخطه- لأنه الملك الأعظم- وقاية بحفظ الأدب معه ولا تأمنوا مكره، فكونوا على حذر من أن يسلبكم ما وهبكم، فاتبعوا الرسول تسلموا، وحافظوا على اتباعه لئلا تهلكوا {وآمنوا برسوله} أي الذي لا رسول له الآن غيره، إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله فإنه لا يصح الإيمان به إلا مع الإيمان برسوله، وبأن تثبتوا على الإيمان به، وتضموا الإيمان به إلى الإيمان بمن تقدمه يا أهل الكتاب، لأن رسالته عامة، لقد نسخ جميع ما تقدمه من الأديان فإياكم أن يميلكم عنه ميل من حسد أو غيره، فبادروا إلى إجابته والزموا جميعاً حذره فلا تميلوا إلى بدعة أصلاً {يؤتكم} ثواباً على اتباعه {كفلين} أي نصيبين ضخمين {من رحمته} تحصيناً لكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع، وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره على العجز، وهذا التحصين لأجل إيمانكم به صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن تقدمه مع خفة العمل ورفع الأصار وهو أعلى بالأجر من الذي عمل الخير في الجاهلية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عنه «أسلمت على ما أسلفت من خير» ودل على أن الكفلين برفع الدرجات وإفاضة خواص من الخيرات بقوله: {ويجعل لكم} أي مع ذلك {نوراً} مجازياً في الأولى بالتوفيق للعمل من المعلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل {تمشون به} أي مجازاً في الأولى بالتوفيق للعمل، وحقيقة في الآخرة بسبب العمل.
ولما كان الإنسان لا يخلو من نقصان، فلا يبلغ جميع ما يحق للرحمن، قال: {ويغفر لكم} أي ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجد. ولما قرر سبحانه وذلك، أتبعه التعريف بأن الغفران وما يتبعه صفة له شاملة لمن يريده فقال: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال والعظمة والكبرياء {غفور} أي بليغ المحو للذنب عيناً وأثراً {رحيم} أي بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
ولما كان أهل الكتاب قد تابعوا أهويتهم على بغض الأميين، وأشربت قلوبهم أن النبوة مختصة بهم لأنهم أولاد إبراهيم عليه السلام من ابنة عمه، والعرب- وإن كانوا أولاده- فإنهم من الأمة وما دروا أن كونهم من أولاده مرشح لنبوة بعضهم وكونهم من الأمة، مهيئ لعموم الرسالة لأجل عموم النسب، قال دالاً على أنهم صاروا كالبهائم لا يبصرون إلا المحسوسات معلقاً الجار ب {آمنوا} و{يؤتكم} وما بعده: {لئلا يعلم} أي ليعلم علماً عظيماً يثبت مضمون خبره وينتفي ضده- بما أفاده زيادة النافي {أهل الكتاب} أي من الفريقين الذي اقتصروا على كتابهم وأنبيائهم ولم يؤمنوا بالنبي الخاتم وما أنزل {ألا} أي أنهم لا {يقدرون} أي في زمن من الأزمان {على شيء} أي وإن قل {من فضل الله} أي الملك الأعلى الذي خصكم بما خصكم به لا يمنع ولا بإعطائكم حيث نزع النبوة منهم ووضها في بني عمهم إسماعيل عليه السلام الذي كانوا لا يقيمون لهم وزناً فيقولون: إنهم بنو الأمة، وإنهم أميون، وإنهم ليس عليهم منهم سبيل، وجعل النبوة التي خصكم بها عامة- كما أشار إليه ما في ابن الأمة من شمول بنسبته وانشعابه وحيث عملوا كثيراً وأعطوا قليلاً: «اليهود من أول النهار على قيراط قيراط، والنصارى من الظهر على قيراط قيراط، وهذه الأمة من صلاة العصر على قيراطين قيراطين، فقال الفريقان: ما لنا أكثر عملاً وأقل أجراً، قالك هل ظلمتكم من حقكم شيئاً، قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء» وذكر ابن برجان معنى هذا الحديث- كما تقدم عنه قريباً- من الإنجيل وطبقه عليه وذكرته أنا في الأعراف، روى الإمام أحمد في مواضع من المسند والبخاري في سبعة مواضع في الصلاة والإجارة وذكر بني إسرائيل وفضائل القرآن والتوحيد، والترمذي في الأمثال- وقال: حسن صحيح- من وجوه شتى جمعت بين ألفاظها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثلكم» وفي هذه الرواية: «مثل هذه الأمة»، وفي رواية: «مثل أمتي» وفي رواية: إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل، وفي رواية: «مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استعمل عملاء»، وفي رواية: «استأجر أجراء» فقال: «من يعمل لي من صلاة الصبح» وفي رواية أخرى: «من غدوة إلى نصف النهار على قيراط، ألا فعملت اليهود» وفي رواية: «قالت اليهود: نحن- فعملوا، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط، ألا فعملته النصارى»، وفي رواية: «قالت النصارى: نحن، فعملوا، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس» وفي رواية: إلى أن تغيب الشمس «على قيراطين قيراطين، ألا فأنتم الذين عملتم»، وفي رواية: «تعملون»، وفي رواية «وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل»، وفي رواية «إلى مغارب»، وفي رواية: «مغرب الشمس على قيراطين قيراطين قيراطين ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى» وقالوا: «نحن» وفي رواية: «ما لنا- أكثر عملاً وأقل عطاء»، وفي رواية «أجراً، قال الله تعالى هل» وفي رواية: «وهل- نقصتكم-» وفي رواية: «هل ظلمتكم- من حقكم شيئاً-» وفي رواية: «أجركم شيئاً، قالوا: لا، قال: فإنه» وفي رواية: «فإنما- هو فضل»، وفي رواية: «فذلك فضلي أوتيه من أشاء»، وفي رواية: «أعطيه من شئت» وفي رواية: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول: «ألا إن بقاءكم»، وفي رواية: «إنما بقاؤكم»، وفي رواية: «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم» وفي رواية: «فيما سلف من قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب» وفي رواية: «إلى غروب الشمس»، وفي رواية: «ألا إن مثل آجالكم في آجال الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغيربان»، وفي رواية: «إلى مغرب»، وفي رواية: «إلى مغارب الشمس، أعطي» وفي رواية: «أوتي- أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار فعجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأعطي» وفي رواية: «ثم أوتي- أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى» وفي رواية: «إلى- صلاة العصر»، وفي رواية «حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس»، وفي رواية: «حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين»، وفي رواية: «ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين» وفي رواية: «أهل التوراة والإنجيل- ربنا هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً»، وفي رواية: «جزاء»، وفي رواية: «أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطتينا قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً منهم، قال الله تبارك وتعالى: هل» وفي رواية: «فهل ظلمتكم من أجركم» وفي رواية: «من أجوركم- من شي؟ فقالوا: لا، فقال: فهو فضلي»، وفي رواية «فذلك فضلي، أوتيه من أشاء» وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث ما قبل هذه الأمم وترك على ذلك أحوالهم فقال: إنه دال على قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام، كان لهم الليل، فكان قوم نوح في أوله في ظلام صرف طويل لم يلح لهم شيء من تباشير الضياء ولا أمارات الصبح، ونوح عليه السلام يخبرهم به ويأمرهم بالتهيؤ له، فلذلك طال بلاؤه عليه السلام بهم، وما آمن معه إلا قليل، وأما قوم إبراهيم عليه السلام فكانوا كأنهم في أواخر الليل، قد لاحت لهم تباشير الصباح وأومضت لهم بوارق الفلاح، فلذلك آمن لوط عليه السلام وكذا سارة زوجته وأولاده منها ومن غيرها كلهم، واستمر الإسلام في أولاده والنبوة حتى جاء موسى عليه السلام، فكان وقته كما بين الصبح والظهر، فكان قومه تارة وتارة، تارة يحسبون أنهم في ضياء كيفما كانوا، فيروغون يميناً وشمالاً فيكونون كمن دخل غيراناً وكهوفاً وأسراباً ثم يخرجون منها فيرجعون إلى الضياء، فكانت غلطاتهم تارة كباراً وتارة صغاراً، وأما قوم عيسى عليه السلام فكانوا كمن هو في الظهيرة في شدة الضياء فالغلط منه لا يكون إلا عن عمى عظيم، فلذلك كان غلطهم أفظع الغلط وأفحشه- والله الموفق- {وإن} أي ولتعلموا أن {الفضل} أي الذي لا يحتاج إليه من هو عنده {بيد الله} أي الذي له الأمر كله {يؤتيه من يشاء} منهم أو من غيرهم نبوة كانت أو غيرها.
ولما كان ربما ظن ظان أنه لا يخص به إلا لأنه لا يسع جميع الناس دفع ذلك بقوله: {والله} أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ذو الفضل العظيم} أي مالكه ملكاً لا ينفك عنه ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلاً، فلذلك يخص من يشاء بما يشاء، فلا يقدر أحد على اعتراض بوجه، فقد نزه له التنزيه الأعظم جميع ما في السماوات والأرض فهو العزيز الحكيم الذي لا عزيز غيره ولا حكيم سواه، فقد انطبق كما ترى آخرها على أولها، ورجع مفصلها على موصلها- والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب.

1 | 2 | 3 | 4